نعم الحياة الخمس
1
في صبيحة أحد أيام هذه الفانية كانت إحدى الجنيّات الطيبات قد أتت إلى شاب يافع وهي تحمل بيدها سلّة وقالت له:
- لدي في هذه السلّة بعض العطايا، فلتأخذ إحداها وتترك الأخريات. لكن عليك أن تكون على حذر، وأن تختار بحكمة. نعم !...عليك بالفعل أن تختار بحكمة لأن واحدة منها فقط ذات قيمة حقيقية.
كانت العطايا الخمس كالتالي :
الشهرة، الحب، الثروة، المتعة، والموت.
قال الشاب بحماس:
- لا حاجة للتفكير مليّاًً. واختار المتعة.
انطلق ذلك الشاب في هذا العالم الكبير، وغرق في جميع الملذات التي يمكن أن يستمتع بها من هم في سن الشباب. إلا أن جميع تلك الملذات كانت قصيرة الأجل، مُخيّبة للآمال، تافهة وغير مُجدِية، وكانت كل منها تتركه وهي تسخر منه... إلى أن قال في النهاية:
- أضعت كل تلك السنوات من حياتي دون جدوى., ولو كان بإمكاني فقط أن أختار من جديد، فسوف أختار بحكمة.
2
حينئذ ظهرت الجنيّة من جديد وقالت له :
- لاتزال لدي أربع من العطايا. بإمكانك أن تختار مرّة أخرى، ولكن تذكّر بأن الوقت يمرّ بسرعة، وبأن واحدة منها فقط ذات قيمة حقيقية.
فكّر الرجل ملياً، واختار الحب، دون أن يكون قد التفت إلى الدموع التي كانت قد إغرورقت بها عينا تلك الجنيّة.
بعد مرور سنوات... سنوات عديدة... كان ذلك الرجل جالساً أمام نعش وفي منزل فارغ يُطارح أفكاره ويُحدث نفسه ويقول:
- ها قد رحلوا جميعاً، الواحد تلو الآخر وتركوني وحيداً... وهاهي آخرهم ومن كانت أغلاهم لدي مُسجاة أمامي الآن . حلّت بي النوائب الواحدة تلو الأخرى. ودفعت ثمن كل ساعة من تلك السعادة التي باعها لي ذلك التاجر الغادر الحب، بآلاف الساعات من الأحزان، وأنا الآن ألعنه من أعماق قلبي.
3
- بإمكانك الاختيار مرّة أخرى!.. كان ذلك صوت الجنيّة.
- لابد أن السنوات علّمتك الحكمة. من المؤكد أن الأمر كذلك. بقيت لدي هنا ثلاث من العطايا، واحدة منها فقط ذات قيمة حقيقية، تذكّر ذلك! عليك الآن أن تختار بحرص.
فكّر الرجل مليّاً ثم اختار الشهرة، وذهبت الجنيّة في طريقها وهي تتنهد.
مرّت السنوات، وعادت الجنيّة من جديد. وقفت خلف ذلك الرجل الذي جلس وحيداً في زوال النهار يندب ويُفكّر. كانت الجنيّة على علم بما يدور في ذهنه:
- ملأت شهرتي قد ملأت .، كان الجميع يُشيدون بي.، وكان مديحي يدور على كل لسان- كان ذلك مُحبباً إلي بالطبع، إلا أنه لم يَدم سوى لفترة قصيرة، فترة قصيرة جداً...
آه!.. كم كانت تلك الفترة قصيرة! فقد تلا ذلك الغيرة، ثم الكراهية، ثم الافتراء، ثم الازدراء، ثم الاضطهاد الذي كان بداية النهاية. إلى أن جاءت أخيراً تلك الشفقة التي كانت التشييع الأخير لما كنت فيه من شهرة.
آه!.. يا لمرارة ويا لبؤس الشهرة ! لعن الله الكَدر حين صفوتها، والازدراء والشفقة حين زوالها.
4
سمع الرجل حينئذ صوت الجنيّة تقول:
- فلتختر مرّة أخرى، لا تزال لدي اثنتان من العطايا. لا تيأس. كانت إحداها فقط منذ البداية ذات قيمة ثمينة، وهي لاتزال موجودة.
قال الرجل:
الثروة !.. نعم، الثروة هي القوّة!.. كم كنت أعمى البصيرة!.. سوف تستحق الحياة أخيراً أن أعيشها. سوف أنفق، سوف أبدد المال، سوف أبهر العيون. سوف أجعل أولائك الذين سخروا مني يزحفون أمامي في الوحل، وسوف أُشبع قلبي المُتعطش برؤيتهم ينظرون إلي بغيرة وحسد. سوف أحصل على جميع وسائل الترف، على جميع المباهج، على كل ما يفتن النفس، وعلى جميع الملذات الجسدية التي يهفو إليها قلب المرء. سوف أشتري، وأشتري، وأشتري كل شيء التقدير، الاحترام، الإجلال، والتبجيل. سوف أحصل على كل ما تُتيحه لي سوق الحياة، وعلى كل ما يُزين هذا العالم من أشياء ثمينة... كنت قد أضعت الكثير من الوقت لأنني اخترت الشيء الخطأ، لكن لندع ذلك جانباً، كنت حينذاك جاهلاً، لذا اخترت ما كان يبدو لي بأنه الاختيار الأفضل.
مرّت سنوات ثلاث أخرى بسرعة البرق. وجاء اليوم الذي جلس فيه ذلك الرجل العجوز في حجرة حقيرة على السطح وهو يرتجف. كان شاحب الوجه، تُحيط بعينيه الهالات، يرتدي الملابس الرثّة، وكان يُتمتم وهو يقضم كِسرة يابسة من الخبز:
- لعن الله جميع النعم الدنيوية، فهي ليست سوى أكاذيب، أكاذيب ذات مظهر خادع، وليست سوى أشياء زائفة يُخدع بها البشر. هذه ليست من النعم، وإنما هي أشياء فانية. ليست المتعة، والحب، والشهرة، والثروة سوى أسماء وهمية للحقائق الدائمة التي هي: الألم، الحزن، العار، والفقر. كانت تلك الجنيّة على حقّ، فلم يكن لديها سوى شيء واحد له قيمة حقيقية. شيء واحد لا يُقدّر بثمن. كم أجد الآن جميع الأمور الأخرى رخيصة وحقيرة بالمقارنة مع تلك الحقيقة الوحيدة الجديرة بالإكبار، تلك النعمة الثمينة، الجميلة، الطيّبة التي تجعل كل ما يعانيه المرء من الآلام التي تنهك الجسم، ومن الخزي والحزن اللذين يأكلان الذهن والقلب، تنغمس جميعها في نوم هادئ دون أحلام و دون معاناة. امنحيه لي فقد تعبت، وبذلك سوف أستريح.
5
عادت الجنيّة مرّة أخرى، لكنها لم تكن تحمل معها سوى أربع من تلك العطايا. لكن ما يريده كان الموت. قالت الجنيّة :
- منحته لطفل صغير. كان ذلك الطفل جاهلاً إلا أنه وثق بي، و طلب مني أن أختار له، لكنك لم تطلب مني أن اختار لك.
قال الرجل العجوز:
-آه.. يا لتعاستي فما الذي تبقى لي هنا؟
أجابت الجنيّة:
- ما تبقى لك هو الشيء الوحيد الذي حتى أنك لا تستحقه: إنه الازدراء الذي لا يرحم سن الشيخوخة.
اشترك معنا فى النشرة البريدية ليصلك كل جديد